منهج الامام مالك في الفتوي


نظرا للعناية العناية الفائقة التي أولاها الإمام مالك لخطة الإفتاء أصبحت عنده الفتوى خاضعة لمنهج مخصوص تفرد به إمام دار الهجرة و أصبح أصلا متبعا في علم الفتوى ، و يمكن تلخيص معالم هذا المنهج المالكي في المعالم التالية : 1- التثبت و التحري في الفتوى ، و من مظاهر ذلك : أولا : التأني في الفتوى و عدم التسرع و الاستعجال في الجواب ثانيا : عدم القطع في مسائل الحلال و الحرام ، حيث روي عن مالك أنه كان يقول في المسألة الممنوعة شرعا : أكره هذا ، لا أحب هذا…دون القطع بكلمة "حرام " و لا سيما في المسائل الظنية . قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : لم يكن من أمر الناس ، و لا من مضى من سلفنا ، و لا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء : هذا حلال و هذا حرام ، و ما كانوا يجترئون على ذلك ، و إنما كانوا يقولون : نكره هذا ، و نرى هذا حسنا ، فينبغي هذا ،
و لا نرى هذا ، و لا يقولون حلالا و لا حراما ، أما سمعت قول الله تعالى : (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا ، قل : آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) الحلال : ما أحله الله و رسوله ، و الحرام ما حرمه الله و رسوله [1] فكلام مالك هذا يتوجه إلى الأحكام الاجتهادية في الغالب لأن القطعيات منصوص على حرمتها ، أو حليتها . 2- رجوعه إلى الحق و إنصافه و في هذا الصدد لا بد من ذكر مواقف عديدة لمالك رحمه الله : § الموقف الأول : رفضه اعتماد كتابه الموطأ وحده مصدرا للفتوى و القضاء كما اقترح ذلك عليه أبو جعفر المنصور ، حيث قال :" يا أمير المومنين لا تفعل ، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل ، و سمعوا أحاديث ، و رووا روايات ، و أخذ كل قوم بما سبق إليهم ، و عملوا به و دانوا له من اختلاف أصحاب رسول الله r ، وغيرهم ، و إن ردهم عما اعتنقوه شديد ، فدع الناس و ما هم عليه ، و ما اختار أهل كل بلد لأنفسهم "[2] - الموقف الثاني : هو أنه عندما جاء هارون الرشيد فأراد أن يعلق الموطأ في الكعبة ، فرفض مالك ذلك قائلا : " يا أمير المومنين أما تعليق الموطأ في الكعبة ، فإن أصحاب رسول الله r اختلفوا في الفروع ، فافترقوا في البلدان ، و كل عند نفسه مصيب "[3] - الموقف الثالث : نهيه أصحابه عن الأخذ بأقواله إن خالفت الأصلين الأولين الكتاب و السنة حيث روي عنه أنه قال : إنما أنا بشر أخطئ و أصيب ، فانظروا رأيي فكل ما وافق الكتاب و السنة فخذوا به ، و كل ما لم يوافق ذلك فاتركوه . وهو الذي اشتهر عنه قوله : كل يؤخذ من كلامه و يرد إلا صاحب هذا القبر r - الموقف الرابع : رجوعه عن بعض آرائه في الفتوى إذا تبينت مرجوحيتها ، و من ذلك يروي عنه تلميذه ابن وهب أنه سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ، فقال ليس ذلك عليه الناس ، فتركته حتى خرج الناس ، فقلت له عندنا في ذلكم سنة قال : و ما هي قلت : …عن المستورد القرشي ، قال رأيت رسول الله r يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه . فقال : إن هذا الحديث حسن ، و ما سمعت به قط إلا الساعة ، قال ابن وهب : ثم سمعته بعد ذلك سئل فأمر بتخليل الأصابع [4] - الموقف الخامس :كراهيته كتابة الفتاوى عنه فيما هو قابل للمراجعة : قال تلميذه أشهب : رآني مالك أكتب جوابه في مسألة ، فقال: لا تكتبها ، فإني لا أدري أأثبت عليها أم لا؟[5] و تفسير هذا أن الاجتهاد يتغير بحسب الأحوال ، فربما تغير اجتهاده في قضية معينة ، فهو لا يحبذ أن ينتشر الجواب الأولي ، و إنما حتى يتحقق عنده نوع من الاطمئنان آنذاك يمكن نشر تلك الفتوى ، و هذا من شدة تحريه في الفتوى و احتياطه . 3- قوله :"لا أدري" عند عدم الاطمئنان إلى الجواب و مالك في هذا الأصل كان متبعا منهج الصحابة رضوان الله عليهم ، حيث كان من شيمهم الإعراض عن الكلام فيما ليس لهم به علم منضبطين بقوله تعالى : (و لا تقف ما ليس لك به علم ، إن السمع و البصر و الفؤاد ، كل أولئك كان عنه مسؤولا ) و كان الرسول r يسأل عن شيء و لا يجيب حتى ينزل الوحي ، و كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه في كثير من الأسئلة يجيب ب : لا أدري فمالك كان متبعا للصحابة في منهجهم ، و تلقى ذلك عن شيوخه كابن هرمز ن حيث قال مالك : سمعت ابن هرمز يقول : ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول " لا أدري " حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه ، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال : " لا أدري " هكذا سار مالك على نهج الأولين في قول لا أدري ، حتى قال الإمام الشاطبي عنه : لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك : لا أدري ، لفعل . و قد روي عن مالك لما كان يجيب الناس ب "لا أدري " فيقول له الناس : و من يدري ؟ يقول لهم ويحكم و من أنا فهذا ابن عمر يقول : لا أ دري فمن أنا ؟ و إنما أهلك الناس العجب و طلب الرياسة ، و هذا يضمحل عن قليل . و كان مالك يقول لاأدري في أحوال مخصوصة ، منها : أولا : في الحالة التي قد يكون لم يتوصل فيها إلى حكم في المسألة يطمئن إليه ثانيا : في الحالة التي يرى فيها قرائن على السائل مانعة من إعطاء الجواب لما فيه من مفاسد 4- رفضه الجواب عن الوقائع المفترضة فالإمام مالك تبعا لمنهجه المتميز بعدم الاستعجال ، لم يكن يجيب عن الوقائع المفترضة ، و كان يقول : الجواب عما وقع ، و قد ذهب المتقدمون من الصحابة والتابعين وبعض الأئمة المجتهدين إلى كراهة السؤال عما لم يقع أو افتراض الوقائع «ورأوا أن الاشتغال بذلك من الغلو والتعمق في الدين»([6]) وقد حكي عن كثير منهم «أنه كان لا يتكلم فيما لم يقع، وكان بعض السلف إذا سأله الرجل عن مسألة قال: هل كان ذلك؟ فإن قال: نعم تكلف له الجواب، وإلا قال: دعنا في عافية»([7]) فكان مالك رضي الله عنه «يكره فقه العراقيين وأحوالهم لإيغالهم في المسائل وكثرة تفريعهم في الرأي»([8]) والمحذور الذي كان يخشاه الإمام مالك هو أن يتخذ الخوض في المسائل الواقعة وغير الواقعة ذريعة إلى التسيب في الاستفتاء والفتوى وذلك باختلاق وقائع والبحث عن أحكامها وما يتبع ذلك من ولوج المتطفلين الميدان بغير استحقاق ومن ثم ذهاب هيبة العلم و التفلت من سيادة الشريعة. 5- رفضه لطريقة الحيل الفقهية : الحيل عرفها العلماء بأنها تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي و تحويله في الظاهر إلى حكم آخر ، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع ، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من الزكاة فإن أصل الهبة على الجواز ، و لو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعا ، فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة ، فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة ، و هو مفسدة ، و لكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية . الحيل بهذا المفهوم كان يكرهها مالك في فتواه و اجتهاده لذلك منع كثيرا من بيوع الآجال المقصود منها التحيل ، خلاف أبي حنيفة مثلا كان يعتمد أسلوب الحيل الفقهية في كثير اجتهاداته . 6- اعتماده على أهل الخبرة في فتاويه روي عن مالك أنه كان يسأل أهل الاختصاص في القضايا التي يتوقف فيها الجواب على ذلك ، و من ذلك : - أنه كان يسأل النساء الخبيرات عن أحوال النساء في الأحكام التي تخص النساء . - أنه كان يسأل الناس عن أعرافهم في ألفاظهم و أعمالهم لأن العادة محكمة . [1] - أعلام الموقعين 1/32 [2] - ترتيب المدارك للقاضي عياض 2/72 [3] - مناقب الإمام مالك للشيخ عيسى الزواوي ص74 [4] - مناقب الإمام مالك ص37 [5] - ترتيب المدارك 1/190 ([6]) الفكر السامي للحجوي 2/420-421. ([7]) أعلام الموقعين 4/170. ([8]) الموافقات 4/235 وقال المقري في قواعده: «قاعدة: يكره تكثير الفروض النادرة والاشتغال عن حفظ نصوص الكتاب والسنة والتفقه فيهما بحفظ آراء الرجال والاستنباط منها، والبناء عليها، وبتدقيق المباحث، وتقدير النوازل» 2/467 وانظر موقف مالك في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/312.

تعليقات